لقراءة كتبه: اضغط هنا
شذرات في ترجمة فقيد العلم الشيخ : عبدالحميد طهماز رحمه الله
بقلم : يحيى محمد الفيفي
أضحت بلاد الشام موطأة الأكناف بما أولاها به الصحابة الفاتحون من عناية بالغة، ورعاية سابغة في ظل الإسلام، وازدهرت النهضة العلمية فيها أيما ازدهار بما نطقت به كتب التأريخ والتراجم والطبقات؛ وقد ظلت محافظة على أخذ العلم وبذله طيلة عهود النهضة العلمية المباركة إلى عصرنا الحاضر؛ لعل من أبرزها ما عاشته القرن المنصرم من وثبة تجديدية في علوم شتى دونما اقتصار على فن دون بعينه؛ كالقراءات والتفسير والفقه والحديث وعلوم اللغة العربية وغير ذلك؛ متجاذبة تلك الفنون فيما بينها، مع تلاقح مثمر بين مدارسها، ولم تكن حماة خلواً من تلك النهضة العلمية؛ فكم ضربت فيها من سهم !
فمن العلماء المبرزين فيها؛ العلامة الفقيه الشيخ : أحمد بن محمد سليم المراد الكردي الحنفي ( 1299 هـ – 1379 هـ ) عميد عائلة آل المراد ومُصَدَّرهم وأمين الفتوى في حماة .
ومنهم العلامة المعمر الفقيه : الشيخ محمد سعيد النعسان، الشهير بالوردي، الشافعي ثم الحنفي ( 1276هـ – 1386 هـ ) المقدَّم في فقهائها، ومعتلي عرش الفتوى فيها، والذي عُمِّر حتى جاوز المائة بعشر سنين .
ومنهم شيخ مشايخنا المقرئ المتقن الصالح البصير، نوري بن أسعد الشحنة ( ت 1369 هـ ) أستاذ القراءات في دار العلوم الإسلامية، وشيخ قراء حماة .
ومنهم العلامة الفقيه المتضلع، المشارك المربي، شيخ مشايخنا : محمد بن محمود الحامد، الحنفي ( 1328 هـ – 1389 هـ ) مجدد نهضة حماة العلمية، وصاحب المدرسة الذائعة الصيت، والتي آتت ثمارها في العالم الإسلامي عن طريق تلاميذه المخلصين .
ومنهم العلامة الفقيه المعمر، شيخ مشايخنا، الشيخ : محمد توفيق بن عباس الصباغ، الشيرازي الشافعي ( 1292 هـ – 1391 هـ ) .
ومنهم الشيخ العلامة الفقيه : خالد الشقفة الشافعي ( ت 1398 هـ ) صاحب كتاب الدراسات الفقهية على مذهب الشافعي، أحد كتب الشافعية المعتبرة في هذا العصر . وقد رأيت شيخنا العلامة الفقيه المعمر السيد : عمر الكاف الحضرمي الشافعي حفظه الله يحتفي به كثيراً، ويصف صاحبه بالفقيه المتضلع .
ومنهم الشيخ الفقيه المربي : محمود بن عبدالرحمن الشقفة الشافعي ( 1317 – 1399 هـ ) . وغيرهم كثير برد الله مضاجعهم، وسقاها شآبيب الرحمة والرضوان .
في هذه المرابع العلمية المباركة ولد مُترجَمُنا الشيخ العلامة الفقيه المفسر المشارك الخطيب الداعية : عبدالحميد بن محمود بن عبدالقادر طهماز؛ وكانت ولادته سنة ( 1356 هـ ) الموافق ( 1937 م ) .
والشيخ من أسرة عريقة تنتشر في حمص وحلب وحماة .
كان لأسرته أثر بالغ في نشأته إلى جانب الصحوة العلمية التي عاشتها حماة آنذاك؛ حيث التحق بالكتاتيب وهو دون الخامسة من عمره، فلقن الحروف، وتعلم الكتابة بهمة وذكاء، ولما تأسست المدارس الرسمية انتسب إليها منتظماً في صفوفها متدرجاً فيها حتى أحرزها في مدة وجيزة، كان قد بلغ حينها الثامنة عشرة من عمره .
ثم سمت به همته، ونهضت به عزيمته فتطلّع إلى جامعة دمشق ليكمل مسيرته العلمية فكانت رحلته إليها سنة ( 1955 م ) حيث كانت فرنسا قد خرجت منها .
ومن الطالع السعيد لشيخنا أن كلية الشريعة في جامعة دمشق كانت قد فتحت أبوابها في السنة السابقة لتخرجه في المدارس النظامية بحماة ( 1954 م )؛ وكأن أبوابها ما أشرعت إلا لدخول الشيخ وأمثاله .
التحق بها شيخنا وانتظم في مقاعدها ناهلاً من علومها، مستفيداً من أساتذتها، متقدماً في مراحلها، في عزمة الأذكياء، ووثبة النجباء إلى أن تخرج فيها سنة ( 1959 م )؛ مع العلم بأن الشيخ ورفاقه معدودون في الفوج الثاني من خريجيها .
ومن الأساتذة الذين لقن عنهم العلم فيها : المفكر الإسلامي الداعية الدكتور مصطفى السباعي؛ حيث درس عليه مادة الأحوال الشخصية .
والأستاذ العلامة : محمد المبارك حيث درس عليه مادة الثقافة الإسلامية .
والعلامة المحدث السيد : محمد المنتصر الكتاني، حيث درس عليه مادتي الحديث والنحو .
والأستاذ : صالح الأشتر، والشيخ العلامة بهجة البيطار؛ كما كان من المقرر أن يدرس الشيخ علي الطنطاوي مادة السيرة النبوية؛ إلا أنه امتنع عن التدريس بعد بضعة دروس ألقاها لما وقعت له القصة المشهورة مع الطالبة التي أصرت على الحضور داخل صفوف الطلاب .
ومن أساتذته في كلية الشريعة بدمشق الأستاذ : فتحي الدريني؛ حيث أشرف على بحثه الذي قدمه سنة التخرج، بعنوان : ( الشركات في الفقه الإسلامي ) .
قضى شيخنا سنوات الجامعة ما بين أساتذته مستفيداً منهم، وبين حلق العلم في مساجد دمشق؛ أو في منـزله يقرأ ويقيد ويبحث؛ حتى استوى على سوقه أستاذاً عالماً، عاد بعدها إلى مسقط رأسه حماة للإفادة والتدريس .
كان اتصاله بشيخ حماة، الشيخ : محمد الحامد، وتأثره به بعد عودته من دمشق؛ على رغم معرفته السابقة به . يقول شيخنا عبدالحميد طهماز رحمه الله : ( كان لشيخنا محمد الحامد مكانته العظيمة في حماة، تجلله المهابة، ويحفه الجلال، فكنت أتهيب لقاءه والجلوس معه، ولكن لما شاركته في تصحيح أوراق اختبار الكفاءة المتوسطة، وعاشرته عن قرب صار بيني وبينه مودة عظيمة؛ فأحبني وأحببته، ورأيت فيه عالماً متواضعاً صاحب دعابة ومن ذلك الوقت توطدت العلاقة بيننا )، وقد شكلت صلته بالشيخ محمد الحامد منعطفاً جديداً في حياته في أوائل الستينات الميلادية، وكان لها الأثر البالغ في مسيرته العلمية والسلوكية؛ حيث لزمه سنين عدداً؛ أخذ عنه علوماً جمة؛ من تفسير وفقه وحديث وسيرة، ويكاد يكون شيخه المفرد . فمن مقروءاته عليه كتاب ” تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ” للزيلعي حيث قرأه عليه قراءة تحقيق وتدقيق، ومنها ” إحياء علوم الدين للغزالي ” حيث كان يقرؤه عليه في الصباح تخفيفاً لحدة الفقه، وربما امتدت القراءة إلى أربع ساعات . وقد لزم شيخه ملازمة تامة؛ فلا يكاد ينقطع عن درسه . وبلغ من جلده في أخذ العلم عنه أنه ربما انتظر خروجه عليه طويلاً في البرد الشديد؛ دون أن يثني ذلك عزيمته . وكان شيخه يقابل جلده وصبره بالدعاء له .
ويذكر شيخنا أن عدداً من رفاقه شاركوه حضور تلك الدروس، منهم : نافع ومصطفى العلواني ، والشيخ محمد علي المراد ومحسن ومحمود الحامد .
وقد بلغت منزلته مبلغاً عظيماً عند شيخه محمد الحامد؛ ففي أحداث ( 1964م ) والتي عصفت بحماة، وكان شيخنا آنذاك منخرطاً في حزب الإخوان، وكان قد حكم عليه مع مجموعة من رفاقه بالإعدام بعد الاعتصام المشهور الذي نظمه في جامع السلطان دفاعاً عن الإسلام والعقيدة وكان صاحب الخطبة المشهورة فيه؛ تدخل شيخه محمد الحامد فخلصه من السجن؛ بعد أن شفع له عند رئيس الجمهورية : أمين الحافظ آنذاك، وكان للشيخ كلمته النافذة عند المسؤولين، ولم يكن الدخول عليهم عادة له؛ ولكنه دخل لأجل تلميذه الذي لزمه بعدها أكثر من ذي قبل تاركاً الإخوان بطلب من شيخه .
توطدت العلاقة بين الشيخ وتلميذه بعد تلك الأحداث، وكما أخذ عنه طريقته في الفقه فإنه أخذ عنه أيضاً طريقته في السلوك، وتلقن منه الذكر، ففي عام ( 1964 م )كانوا في نزهة دعاهم إليها أحد أصدقاء الشيخ الحامد قرب الناعورة بعد عصر أحد الأيام، وكان في المجلس منشد يترنم بمدح النبي فاعترت الشيخ حالة شديدة انخرط في إثرها باكياً؛ فدعاه شيخه محمد الحامد وأجلسه بين يديه ولقنه الذكر .
وبلغ من شدة ثقة الشيخ الحامد بتلميذه أنه كان خليفته في درسه اليومي، ووكيله في خطبة الجمعة، وكان يثق به ثقة مطلقة، بل كان لا يصدر فتوى إلا بعد استشارته، وزبر توقيعه عليها .
وبلغ من ثقته به أنه لما توفي الشيخ الفقيه : محمد سعيد النعسان مفتي حماة عام ( 1386 هـ ) عرض منصب الفتوى على الشيخ : محمد الحامد فامتنع ورفض رفضاً شديداً ؛ معللاً ذلك بتحرجه منه للأمور التي تصحبه من شهرة وضياع وقت؛ مع موافقته على الفتيا شريطة أن لا تكون عن طريق المنصب، وكان ذلك زهداً منه رحمه الله، واقترح عليهم أن يكون الشيخ : محمد علي المراد ( ت 1421 هـ ) المفتي، وأن يكون الشيخ : عبد الحميد طهماز أمين الفتوى؛ إلا أن ذلك لم يتم رغبة من الجميع في أن يليه الشيخ : محمد الحامد؛ ولكنه أصر على الرفض، وهم لجوا في الطلب؛ فبقي المنصب شاغراً إلى أن مات سنة ( 1389 هـ ) رحم الله الجميع .
وبلغ من شدة تعلقه بشيخه ووفائه له أن أفرد ترجمته بكتاب مستقل بعنوان ” العلامة المجاهد الشيخ محمد الحامد ” .
بقي شيخنا في حماة بعد موت شيخه الحامد مفيداً سواء في مدارسها الثانوية والإعدادية ، أو في مساجدها؛ لاسيما في جامع السلطان، واستمر في عطائه إلى مطلع هذا القرن حيث هاجر إلى بلاد الحرمين عام 1400 هـ فاراً بدينه؛ صابراً على مفارقة دياره، محتسباً في ذلك الأجر . والمؤمن كالغيث حيث حل نفع؛ فقد حظيت به بلادنا معلماً في معاهدها؛ حيث درس في معهد تعليم اللغة العربية في جامعة الإمام محمد بن سعود ثلاث سنوات، ثم انتقل بعدها إلى المعهد العلمي في المدينة المنورة سنتين وبضعة أشهر، ثم انتقل بعدها إلى المعهد العلمي في نجران سنتين وبضعة أشهر، ثم استقر بمكة المكرمة في معهد الأئمة والدعاة في رابطة العالم الإسلامي حتى تقاعد منه سنة ( 1416 هـ ) وبقي في مكة المكرمة إلى قبيل عام؛ حيث انتقل إلى الرياض عند ابنه السيد محمد .
ومن الجوانب المهمة في سيرة شيخنا –إلى جانب الفتيا والتدريس- عنايته بالتأليف، فقد أولاه اهتماماً بالغاً حيث أثرى المكتبة الإسلامية بكثير من المؤلفات الماتعة، التي سلك في أكثرها أسلوب التجديد في طريقة التأليف من أشهرها : تفسيره الكامل للقرآن والذي سبكه في قالب التفسير الموضوعي؛ حيث يدير تفسير السورة في كاملها على أشهر موضوع ارتكزت عليه، ومنها كتابه الماتع التجديدي : الفقه الحنفي في ثوبه الجديد، والذي سهل فيه الفقه بطريقة تلائم أهل العصر، وقد ترجم إلى اللغة البوسنية والفارسية والبنغالية، كما استؤذن الشيخ في أن يترجم إلى اللغتين الإندونيسية والصينية . ومنها كتابه في السيرة النبوية والذي نسجه في ضوء آيات القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وغير ذلك من المؤلفات .
عرض عليه بأخرة منصب الفتيا بحماة لكنه استعفى منه مؤثراً البقاء في جوار الحرمين الشريفين .
هذا وقد فجع المسلمون بموت عالمنا الجليل : عبدالحميد طهماز؛ حيث انتقل إلى رحمة الله ورضوانه فجأة قبيل الساعة الثانية عشرة من ليلة السبت منتصف شهر صفر من عام 1431 هـ في مدينة الرياض .
فيكون قد عاش خمسة وسبعين عاماً؛ مابين تلميذ ذكي يستحث خطاه لنيل العلم في الكتاتيب والمدارس والجامعة، أو في حلق العلماء، وخطيب مصقع اهتزت له أعواد منابر حماة، وأستاذ جليل يبذل العلم كما بذل له، ويتهيب كبار المفتين من إصدار الفتوى دون خاتمه . رحمه الله رحمة الأبرار، وجعل مثواه في عليين .
سِـرْ نَحْـوَ العُـلا
أزجي هذه الأبيات على استحياء في رثاء شيخنا العلامة المفسر، الفقيه المتضلع : عبدالحميد بن محمود طهماز الحموي رحمه الله؛ بعد أن فجعنا بموته ليلة النصف من صفر صبيحة السبت من عام 1431 هـ ؛ نفثة مفجوع، وأنّة موجوع، سائلاً المولى جل وعلا أن يرحمه رحمة الأبرار، وينـزله منازل الشهداء الأخيار .
جاد القريض فسـال فيـض معـاني وهمى القصـيد بمرسـلات بيـانِ
لمـا أتـى نعـي الإمـام فهـزنا خبـر تخـر لـه عـرى الأركـانِ
صرخت بنعي الشيـخ صـرخة والهٍ عبدالحميـد مضـى بغـير تـواني
عبـدالحمـيد اليـوم فـارق دارنا ورقـت بـه الأمـلاك للـرحمـنِ
رفقـاً أليـل الفاجعـات بأنفُـسٍ قد مسـها قـرح كطعـن سنـانِ
فالصـدر مكلـوم الحشاشـة مُفْجَعٌ والقلـب رتـل نغمـة الأشجـانِ
والنفـس آسفـة يقرعـها الجـوى مـن فقـده والـروح في أحـزانِ
وتسربلـت نفسي بسربـال الأسى وتقـرحت من وجـدها العينـانِ
ناداك صـوت الحق يا طهمـاز سر نحـو العـلا في جنـة الرضـوانِ
فأجبـت داعـيه ولبيـت النـدا لتعيـش في الأخـرى بعمـر ثـاني
حفتـك أملاك السمـاوات العـلا وسمـت بروحـك في نعيـم جنانِ
وبكتك يا طهمـاز مقلـة مدنـفٍ ونعـاك في الغبـراء كـل لسـانِ
ورثتـك في العلمـاء محبـرة وقـرْ طـاس تضمـخ منـك بالإيمـانِ
طوبى فـرب العالمـين ضمينـكم فلتهنـك العقـبى بخيـر ضمـانِ
مـا كنـت إلا تاليـاً لكتـابـهِ مستخـلصـاً منـه بديـع معـاني
أو صابـراً يرجـو جبيـرة كسـرهِ أو سابـحـاً في الذكـر والقـرآنِ
العـلم ضيـم اليـوم في أستـاذهِ فطـوى صـحـائفـه بغيـر أوانِ
فالفقـه والتفسـير يبكـي أسطـراً دبجـتـها بالبـحـث والإتقـانِ
فلكَـم زبـرت من القـران بصيرةً ولكَم سبكـت هـداه في إمعـانِ
وأبـو حنيـفة قـد أتيـت لفقههِ فنظـمتـه كقـلائد العـقـيـانِ
وكسـوته ثوبـاً جـديداً فازدهى متبـختـراً يزهـو على الأقـرانِ
وأتيـت في زمـن اللئـام فكنت من أهـل الوفـاء وصـانعي العـرفانِ
فالحامـد الحبـر الإمـام نشـرتـهُ طيـباً فـذاع شـذاه كالـريحـانِ
فرسمـت للإخـلاص أبدع صورةٍ لله مـا أسديـت مـن إحسـانِ
نبكيـك نحـن وتضحك الحور التي ترنـو إليـك بمقـلتـي ولهـانِ
قد ســرها لمّا ثـويـت بجنـةٍ وعرفتـها مـن غيـر ما نكـرانِ
فتسـابقـت جـذلى للقيـا خلها وشـدت له مـن طيـب الألحـانِ
فرأيـت مـا قـررتـه بمحـابـرٍ في جـنـة الفـردوس رأي عيـانِ
وحللـت فيهـا نعـم دار مقـامةٍ فاسعـد بهـا في غبـطـة وأمـانِ
حفّـت برمسـك رحمـة منشـورةٌ وسَقَـت ثـراك سحـائب الغفرانِ
ولسـوف تشـرق في سمـاء علومنا كالشمـس تسطـع في علا الأكوانِ
المصدر: رابطة العلماء السوريين
Pingback: الفقه الإسلامي وأصوله لعلماء معاصرين – أ.د غسان حمدون
Pingback: الفقه الإسلامي وأصوله لعلماء معاصرين – أ.د غسان حمدون